مِلْشْكَافِي | MILCHKAFFEE
كُولُونْيا - ألمانيا | Köln - Deutschlandمِلْشْكَافِي | MILCHKAFFEE
نورالدين الغَطَّاسْ – NOUREDDINE RHATTAS
“هذه حياتي، لاَ أَعْتَدِرُ عمَّا فعلتُ” نَادْيَا
بعد الباب الأول “لالاَّ عَايْشَه” يأتي الباب الثاني “مِلْشْكَافِي”. بعد رجوع نَوْفَلْ وِسَامْ من الدارالبيضاء نامَ طويلا، استيقظ في هدوء صباح يوم السبت، تحمَّم بماء دافئ، ارتشف قهوته، تصفَّح جريدته الأسبوعية “الوقت” قبل أن يجلس على مكتبه. نَادْيَا، أٌمْ مٌوسَى كما كان يٌسمِّيها، كانت تُشَجِّعُهُ دائما على الكتابة، ثِقْ بخوفك واكْتُبْهُ يا نَوْفَلْ، أُكتُبْ ما شئتَ. محطات الحياة كانت تجمعهم وتفرقهم، القنيطرة بالمغرب، بودابست بالمجر، كولونيا بألمانيا وأخيرا الدارالبيضاء.
في صيف مضى لا يعود، على رملِ الشاطئ رسمتْ بيتًا وقالتْ هذه غرفة النوم وهذا صالون الضيوف، جاءت موجة البحر بين مد وجزر لتمسحَ ما رسمتْ…
عادةً يدخُلُ نَوْفَل المرقص „الكَنْتِينَه” بكُولُونْيَا كل يوم أربعاء حيث تُقام سهرات بعد العمل، يدرسُ الميدان أولا، كل امرأة تنكشفُ أمام أعينه وكأنَّهُ جرَّاح، حتى يجد تِلْكْ، موقع تركيزه، آنذاك يَتَحَوَّلْنَ كل نساء المرقص الى تِلْكْ المرأة الواحدة، يدرسُ من جديد كل شيء، ماذا تَشرب؟ من تُصاحب؟ كيف تتحرك؟ أي موسيقى تجعلُ جسمها يرتعشُ، خصوصا ثقل أردافها؟ كلما التقتْ عيونهم تنشرحُ ابتسامَتُهُ الواسعة، سلاحُهُ الناجع، يَتَرَبَّصُ، يستغِلُّ كل ثغرة إلى دخول زاوية بصرها، يقتربُ منها شيئا فشيئا، بَوْصَلتُه تبقى دائما لغة العيون، “الثعلبُ الذي يظهر ويختفي” على نسق رواية محمد زفزاف.
قالت: تعال معي لنغيِّرَ الغرفة، تردَّد شيئا ما، قبل أن يرافقها، قال لنفسه مرة أخرى: السيدة اختارته بعناية دقيقة لمسرحيتها الجديدة، المرأة الشقراء صاحِبة الشعر الذهبي والرجل الأسمر صاحب الشعر الأسود المتجعِّد، أبطال مسرحيتها الجديدة. في طريقها إلى الغرفة المقصودة، رددتْ بلهجة أهل كُولُونْيَا „كُلْشْ” كما يُسمونَهَا:
تَعَالَ مَعِي/ ظلام في ظلام/ تَعَالَ مَعِي/ لاَ لون، لا رائحة / تَعَالَ مَعِي/ إِلَى ما لا نهاية/ تَعَالَ مَعِي/ آسفة عنِ الإزعاج/..
دخلُوا غرفة أصغر من السابقة، غرفة كُلها بياض في بياض، الحيطان، اللوحات، السرير بالوسط، صوان الملابس، كل شيء أبيض، غَمَرَهُ إحساس وكأنَّه بضريح أحد الأولياء الصالحين بالبلاد. خلعتْ ما تبقى من ملابسها الخفيفة، ظهر جِسْمُهَا عاريًا كالثوم، منحنيات أنثوية واضحة، تبدو امرأة متأججة الشهوة، قالتْ وهي تستلقي على السرير:
المرأة تحبُ أَبْسَطُ الأمور في الحياة، الرَّجُل!
لا فرق بين رجال الشمال والجنوب، زادتْ في الكلام عن سِيغْمُوند فْرُويْد:
„المرأة المحبة لرجال كثيرين تَعْرفُ الرَّجل، المرأة المحبة لرجلٍ واحد تعرفُ الحبّ فقط”.
يبدو أن لها تجربة وهو ربما ضَحِيَّتُهَا اليوم، دَعْ كأس قهوتِكَ بالخارج لكيلا تُعكِّر صفاء الغرفة، وأقترب منِّي، لستُ ثُعبَان لاَسِعْ، حينها راجع نَفْسَهُ مرة أخرى، هل هذه المرأة سليمة في عقلها؟ يبدو أن للمسرحية قوانينُها، على إيقاع المخرجة التي غيَّرت وضعيتها عل السرير، استلقَتْ على بطنها. اسْتَنْشَقَ ما تبقَّى من هواء الحجرة، اسْتَمَعَ الى فريق أصواتِه الداخلية، تناديه لاَ ثُم لَا للمغامرة، الساعة الحائطية تشير إلى الثالثة صباحا، اعتدر أن لديه غدا في الصباح الباكر عمل بالجامعة ومازال عليه أن يتمم ترتيباته اللازمة، عزم على الخروج من البيت، في طريقِهِ إلى معطفِهِ على الطاولة التي تتوسط الغرفة الأولى، أُطْلِقَ الرصاص، وَقَفَ متجمِّدًا في مكانه، أِنتظر سقوطَ جسمه على الأرض، تحسَّسَ رأسَهُ وجوانبَهُ قبل ان يستديرَ برأسه إلى الوراء، البيت الأبيض أصبح مبللًا بالدماء، وجسمُ امرأة عارية ملقاة على الأرض، يَا لَهَا مِنْ مُصِيبَة…
كلُ الحُجَجْ تُؤَكِّدُ المُتَّهَمْ والمٌجْرِمْ: نَوْفَلْ وِسَامْ.
صَرَخَ بجميع قواه، قَفَزَ من سريره الخشبي، لعنَ كل شيء، الوطن والمهجر، جسمه مبلل بالعرق وكأنه يخرجُ من حمام بالبخار، مدَّدَ يدهُ اليسرى ليضغط على المُنَبه الذي يرِنُ جوار سريره.
الغرفة قليلة الضوء إلى حد الظلام، فقط شموع في أركانها، موسيقى „كَارْمِينَا بُورَانَا”، ترتدي معطف وقفافيز سوداء، شعرها طويل وذهبي حتى الخصر، وجهها دقيق الملامح، هل تريدُ هذه السيدة مرافقة جنازة في هذه الساعة المتأخرة من اللَّيْل؟ جلسَ نَوْفَلْ وِسَامْ على أقرب كرسي، سألته هل يحبُ أن يَشْرُب شيئًا، قهوة؟ كأس نبيد أحمر؟ مِلْشْكَافِي من فضلك، كانَ جَوَابُهُ. ترددتْ شيئا ما قبل أن تسترسل قائلة، ماذا تعني؟ أعني قهوة شقراء، اِبتسمتْ وهي تخلعُ معطفها، ظهرتْ ذراعيها العارية ناصعة البياض حتى الكتفين، نهديها البارزتين بدون حمالة للصدر دليل آخر على أنوثتها، في طريقها إلى المطبخ وقفتْ وسط الغرفة، استدارتْ برأسها وقالت، ربما تتساءلُ عن الموسيقى، أحبُ سجلات الفِينِيل، نستمع إلى عمل للمُلَحن كَارلْ أُورْفْ، وَرِثُ الأسطوانة عن جدتي التي حضرت تقديمه لأول مرة بالثامن من يونيو سنة ١٩٣٧ بدار الأُوبِرا بِفْرَانْكْفُورْتْ، مرجعه يعود إلى ٢٤ قصيدة من القرون الوسطى. الغناء خليط من اللغة اللاتينية، الألمانية البَافَارِية الجنوبية والفرنسية القديمة، كونكَ مولع باللغات استمع جيدًا واشرح لي ما فهمتَ بعد رجوعي؟
لا يريدُ الاستماع إلى موسيقى حزينة كهذه أو بالأحرى إلى أُوبِرا لا يعرفُ منها سوى الاسم. ربما لم يكن واضحا بما فيه الكفاية من قبل. كل ما يريدُهُ هو قضاء ساعات جميلة مع رفيقة فراش لا تفكرُ إلاَّ في اللحظة، على كل حال تجربَتُهُ كبيرة مع النساء الألمانيات تؤَهِلُهُ أن يتعامل مع الموقف، غالبًا ما يعرفُ كيف يُخرج شعرته من العجين بكل لباقة ممكنة قبل أن تتعقد الأمور، في مثل هذه المواقف يركز على الأمور الصغيرة، يستمعُ جيِّدًا إلى ما بين الكلمات، حركات الأيدي، نظرات الأعين، هندسة اللحظة كما يُسميها. تجوَّل بعينيه في الغرفة، كُتب هنا وهناك، لوحات فنية فوق بعضها البعض، النظام لا معنى له…
فجأة، عادت وفي يدها اليسرى مسدسًا، فنجان قهوة بيدها اليُمنى، تذكَّر ضربة سِي صَالَحْ بالعصا، مُعلم الكُتَّاب القرآني بالبلاد، وهو يُرَدِّدُ، اليد اليُسرى من الشيطان، أين القهوة الشقراء التي كان ينتظرُها؟ دقات قلبه أصبحتْ غير منتظمة، لا يستطيعُ ابتلاع رحيقه، قلبُهُ زاد خفقان وكأنَّه يريد مغادرة صدره. هَلْ تكونُ نهايته هُنَا والآن وعلى هذا الشكل؟ لا يملكُ تأمين الأموات للرجوع بجنازته إلى المغرب، ولاَ يُريدُ تدخل القنصلية في مصير جُثمَانِه، ماذا سيقُولُونَ لأُمِّه وهِيَ تبكي وراءَ نعشه؟ سيكذبُون عليها، أنَّهُ عاد شهيدا من بلاد الغربة، وأن امرأة شقراء لم تحب سواد أعينه فَقَتَلَتْهُ، ضحية للعنصرية فَحَسْبْ، لكنَّه رغم ذلك يخشى أنين بكاءها وهي تُرَدِّدُ: „أَلَمْ أقل لكَ، أنتَ غريب فلا تدخل بيوت الغٌرباء”.
رَجَعَ من جديد الى أنفاس اللحظة وقلبُهُ مازال يخفُقُ دون هوادة، نظرتْ إليه نظرة غريبة وهي تمشي بحركات غير منتظمة، استردفتْ قائلة بصوتٍ شاحب، لم أكن أمشي هكذا، التداخل في المشيْ راجع إلى حادثة وقعتْ لي مع الأصوليين بمدينة كُولُونْيَا، كنتُ إياها على حافة الموت، وحماية لنفسي جَعلتُ المسدس في حوزتي. تَنَفَّسَ الصُعداء، زفرة وتنهيدة طويلتان، قدمتْ له فنجان القهوة التي كانت سوداء على عكس تَوَقُّعِه، ليستْ عادَتُه أن يرتشف قهوة سوداء في آخر الليل، ولكيْ يُلفِتَ انتباهُها إلى موضوع آخر، طلبَ منها حليب، فكان جوابُها، لا أستعمل الحليب، أشربُ القهوة دائما سوداء، تساعدني على التركيز في رسم لوحاتي وقراءة نصوصي المسرحية، قال في نفسه، إنَّها بالفعل مسرحية والسيدة تبحثُ عن بطل لها.
الموسيقى انخفضتْ، أو بالأحرى كان الشريط على وشك نهايته، وبعد لحظة، سمع خشخشة قادمة من إحدى أركان الغرفة، قالتْ، لا تتفاجأ إذا رأيتَ فأرا هُنا أو هُناك، كونِي لا أستطيع قتل الحيوانات، تركتُها تعيشُ بحرية في منزلي، للإضافة، شُقتي لم يدخُلها إلى حد الآن سوى ثلاثة أشخاص، أمي، التي مازالت تلاحقني في كل مكان رغم مرور سنوات على وفاتها، المخرج الذي يُنجزُ أعمالي الفنية، وأنتَ نَوْفَلْ وِسَامْ، وهذا يكفي، أليس كذلك؟ إنَّه شرف لي، كان جوابه السريع، لقد أعجبني شعركَ الأسود، المتجعّد تحت أضواء المرقص، هُنَا اِرْتَبَكَتْ مُعادلتَهُ، من الذي اختارَ الآخر؟
الغرفة قليلة الضوء إلى حد الظلام، فقط شموع في أركانها، موسيقى „كَارْمِينَا بُورَانَا”، ترتدي معطف وقفافيز سوداء، شعرها طويل وذهبي حتى الخصر، وجهها دقيق الملامح، هل تريدُ هذه السيدة مرافقة جنازة في هذه الساعة المتأخرة من اللَّيْل؟ جلسَ نَوْفَلْ وِسَامْ على أقرب كرسي، سألته هل يحبُ أن يَشْرُب شيئًا، قهوة؟ كأس نبيد أحمر؟ مِلْشْكَافِي من فضلك، كانَ جَوَابُهُ. ترددتْ شيئا ما قبل أن تسترسل قائلة، ماذا تعني؟ أعني قهوة شقراء، اِبتسمتْ وهي تخلعُ معطفها، ظهرتْ ذراعيها العارية ناصعة البياض حتى الكتفين، نهديها البارزتين بدون حمالة للصدر دليل آخر على أنوثتها، في طريقها إلى المطبخ وقفتْ وسط الغرفة، استدارتْ برأسها وقالت، ربما تتساءلُ عن الموسيقى، أحبُ سجلات الفِينِيل، نستمع إلى عمل للمُلَحن كَارلْ أُورْفْ، وَرِثُ الأسطوانة عن جدتي التي حضرت تقديمه لأول مرة بالثامن من يونيو سنة ١٩٣٧ بدار الأُوبِرا بِفْرَانْكْفُورْتْ، مرجعه يعود إلى ٢٤ قصيدة من القرون الوسطى. الغناء خليط من اللغة اللاتينية، الألمانية البَافَارِية الجنوبية والفرنسية القديمة، كونكَ مولع باللغات استمع جيدًا واشرح لي ما فهمتَ بعد رجوعي؟
لا يريدُ الاستماع إلى موسيقى حزينة كهذه أو بالأحرى إلى أُوبِرا لا يعرفُ منها سوى الاسم. ربما لم يكن واضحا بما فيه الكفاية من قبل. كل ما يريدُهُ هو قضاء ساعات جميلة مع رفيقة فراش لا تفكرُ إلاَّ في اللحظة، على كل حال تجربَتُهُ كبيرة مع النساء الألمانيات تؤَهِلُهُ أن يتعامل مع الموقف، غالبًا ما يعرفُ كيف يُخرج شعرته من العجين بكل لباقة ممكنة قبل أن تتعقد الأمور، في مثل هذه المواقف يركز على الأمور الصغيرة، يستمعُ جيِّدًا إلى ما بين الكلمات، حركات الأيدي، نظرات الأعين، هندسة اللحظة كما يُسميها. تجوَّل بعينيه في الغرفة، كُتب هنا وهناك، لوحات فنية فوق بعضها البعض، النظام لا معنى له…
فجأة، عادت وفي يدها اليسرى مسدسًا، فنجان قهوة بيدها اليُمنى، تذكَّر ضربة سِي صَالَحْ بالعصا، مُعلم الكُتَّاب القرآني بالبلاد، وهو يُرَدِّدُ، اليد اليُسرى من الشيطان، أين القهوة الشقراء التي كان ينتظرُها؟ دقات قلبه أصبحتْ غير منتظمة، لا يستطيعُ ابتلاع رحيقه، قلبُهُ زاد خفقان وكأنَّه يريد مغادرة صدره. هَلْ تكونُ نهايته هُنَا والآن وعلى هذا الشكل؟ لا يملكُ تأمين الأموات للرجوع بجنازته إلى المغرب، ولاَ يُريدُ تدخل القنصلية في مصير جُثمَانِه، ماذا سيقُولُونَ لأُمِّه وهِيَ تبكي وراءَ نعشه؟ سيكذبُون عليها، أنَّهُ عاد شهيدا من بلاد الغربة، وأن امرأة شقراء لم تحب سواد أعينه فَقَتَلَتْهُ، ضحية للعنصرية فَحَسْبْ، لكنَّه رغم ذلك يخشى أنين بكاءها وهي تُرَدِّدُ: „أَلَمْ أقل لكَ، أنتَ غريب فلا تدخل بيوت الغٌرباء”.
رَجَعَ من جديد الى أنفاس اللحظة وقلبُهُ مازال يخفُقُ دون هوادة، نظرتْ إليه نظرة غريبة وهي تمشي بحركات غير منتظمة، استردفتْ قائلة بصوتٍ شاحب، لم أكن أمشي هكذا، التداخل في المشيْ راجع إلى حادثة وقعتْ لي مع الأصوليين بمدينة كُولُونْيَا، كنتُ إياها على حافة الموت، وحماية لنفسي جَعلتُ المسدس في حوزتي. تَنَفَّسَ الصُعداء، زفرة وتنهيدة طويلتان، قدمتْ له فنجان القهوة التي كانت سوداء على عكس تَوَقُّعِه، ليستْ عادَتُه أن يرتشف قهوة سوداء في آخر الليل، ولكيْ يُلفِتَ انتباهُها إلى موضوع آخر، طلبَ منها حليب، فكان جوابُها، لا أستعمل الحليب، أشربُ القهوة دائما سوداء، تساعدني على التركيز في رسم لوحاتي وقراءة نصوصي المسرحية، قال في نفسه، إنَّها بالفعل مسرحية والسيدة تبحثُ عن بطل لها.
الموسيقى انخفضتْ، أو بالأحرى كان الشريط على وشك نهايته، وبعد لحظة، سمع خشخشة قادمة من إحدى أركان الغرفة، قالتْ، لا تتفاجأ إذا رأيتَ فأرا هُنا أو هُناك، كونِي لا أستطيع قتل الحيوانات، تركتُها تعيشُ بحرية في منزلي، للإضافة، شُقتي لم يدخُلها إلى حد الآن سوى ثلاثة أشخاص، أمي، التي مازالت تلاحقني في كل مكان رغم مرور سنوات على وفاتها، المخرج الذي يُنجزُ أعمالي الفنية، وأنتَ نَوْفَلْ وِسَامْ، وهذا يكفي، أليس كذلك؟ إنَّه شرف لي، كان جوابه السريع، لقد أعجبني شعركَ الأسود، المتجعّد تحت أضواء المرقص، هُنَا اِرْتَبَكَتْ مُعادلتَهُ، من الذي اختارَ الآخر؟ عادةً يدخُلُ نَوْفَل المرقص „الكَنْتِينَه” بكُولُونْيَا كل يوم أربعاء حيث تُقام سهرات بعد العمل، يدرسُ الميدان أولا، كل امرأة تنكشفُ أمام أعينه وكأنَّهُ جرَّاح، حتى يجد تِلْكْ، موقع تركيزه، آنذاك يَتَحَوَّلْنَ كل نساء المرقص الى تِلْكْ المرأة الواحدة، يدرسُ من جديد كل شيء، ماذا تَشرب؟ من تُصاحب؟ كيف تتحرك؟ أي موسيقى تجعلُ جسمها يرتعشُ، خصوصا ثقل أردافها؟ كلما التقتْ عيونهم تنشرحُ ابتسامَتُهُ الواسعة، سلاحُهُ الناجع، يَتَرَبَّصُ، يستغِلُّ كل ثغرة إلى دخول زاوية بصرها، يقتربُ منها شيئا فشيئا، بَوْصَلتُه تبقى دائما لغة العيون، “الثعلبُ الذي يظهر ويختفي” على نسق رواية محمد زفزاف.
قالت: تعال معي لنغيِّرَ الغرفة، تردَّد شيئا ما، قبل أن يرافقها، قال لنفسه مرة أخرى: السيدة اختارته بعناية دقيقة لمسرحيتها الجديدة، المرأة الشقراء صاحِبة الشعر الذهبي والرجل الأسمر صاحب الشعر الأسود المتجعِّد، أبطال مسرحيتها الجديدة. في طريقها إلى الغرفة المقصودة، رددتْ بلهجة أهل كُولُونْيَا „كُلْشْ” كما يُسمونَهَا:
تَعَالَ مَعِي/ ظلام في ظلام/ تَعَالَ مَعِي/ لاَ لون، لا رائحة / تَعَالَ مَعِي/ إِلَى ما لا نهاية/ تَعَالَ مَعِي/ آسفة عنِ الإزعاج/..
دخلُوا غرفة أصغر من السابقة، غرفة كُلها بياض في بياض، الحيطان، اللوحات، السرير بالوسط، صوان الملابس، كل شيء أبيض، غَمَرَهُ إحساس وكأنَّه بضريح أحد الأولياء الصالحين بالبلاد. خلعتْ ما تبقى من ملابسها الخفيفة، ظهر جِسْمُهَا عاريًا كالثوم، منحنيات أنثوية واضحة، تبدو امرأة متأججة الشهوة، قالتْ وهي تستلقي على السرير:
المرأة تحبُ أَبْسَطُ الأمور في الحياة، الرَّجُل!
لا فرق بين رجال الشمال والجنوب، زادتْ في الكلام عن سِيغْمُوند فْرُويْد:
„المرأة المحبة لرجال كثيرين تَعْرفُ الرَّجل، المرأة المحبة لرجلٍ واحد تعرفُ الحبّ فقط”.
يبدو أن لها تجربة وهو ربما ضَحِيَّتُهَا اليوم، دَعْ كأس قهوتِكَ بالخارج لكيلا تُعكِّر صفاء الغرفة، وأقترب منِّي، لستُ ثُعبَان لاَسِعْ، حينها راجع نَفْسَهُ مرة أخرى، هل هذه المرأة سليمة في عقلها؟ يبدو أن للمسرحية قوانينُها، على إيقاع المخرجة التي غيَّرت وضعيتها عل السرير، استلقَتْ على بطنها. اسْتَنْشَقَ ما تبقَّى من هواء الحجرة، اسْتَمَعَ الى فريق أصواتِه الداخلية، تناديه لاَ ثُم لَا للمغامرة، الساعة الحائطية تشير إلى الثالثة صباحا، اعتدر أن لديه غدا في الصباح الباكر عمل بالجامعة ومازال عليه أن يتمم ترتيباته اللازمة، عزم على الخروج من البيت، في طريقِهِ إلى معطفِهِ على الطاولة التي تتوسط الغرفة الأولى، أُطْلِقَ الرصاص، وَقَفَ متجمِّدًا في مكانه، أِنتظر سقوطَ جسمه على الأرض، تحسَّسَ رأسَهُ وجوانبَهُ قبل ان يستديرَ برأسه إلى الوراء، البيت الأبيض أصبح مبللًا بالدماء، وجسمُ امرأة عارية ملقاة على الأرض، يَا لَهَا مِنْ مُصِيبَة…
كلُ الحُجَجْ تُؤَكِّدُ المُتَّهَمْ والمٌجْرِمْ: نَوْفَلْ وِسَامْ.
صَرَخَ بجميع قواه، قَفَزَ من سريره الخشبي، لعنَ كل شيء، الوطن والمهجر، جسمه مبلل بالعرق وكأنه يخرجُ من حمام بالبخار، مدَّدَ يدهُ اليسرى ليضغط على المُنَبه الذي يرِنُ جوار سريره.